فصل: تفسير الآيات (56- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (56- 57):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} [56- 57].
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لآلهتهم التي لا علم لها؛ لأنها جماد: {نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي: من الزرع والأنعام وغيرهما تقرباً إليها: {تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} أي: من أنها آلهة يتقرب إليها. ومرَّ نظير الآية في سورة الأنعام في قوله سبحانه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام: 136] الآية، فانظر تفصيلها ثمة.
{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} هذا بيان لعظيمة من عظائمهم، وهو جعلهم الملائكة الذين هم عَبَّاد الرحمن بنات لله، فنسبوا له تعالى ولداً ولا ولد له. واجترءوا على التفوه بمثل ذلك، وعلى نسبة أدنى القسمين له من الأولاد، وهو البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم؛ لأنهم يشتهون الذكور، أي: يختارونهم لأنفسهم ويأنفون من البنات. وقد نزه مقامه الأقدس عن ذلك بقوله: {سُبْحَانَهُ} أي: عن إفكهم وقولهم. وفيه تعجب من جراءتهم على التفوه بهذا المنكر من القول، ومن مقاسمتهم لجلاله بالاستئثار كما قال سبحانه: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21- 22]. وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِيْنَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 151- 154]. ثم أشار إلى شدة كراهتهم للإناث، بما يمثل عظم تلك النسبة إلى الجناب الأقدس وفظاعتها، بقوله سبحانه وتعالى:

.تفسير الآيات (58- 59):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [58- 59].
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ} أي: صار أو دام النهار كله: {مُسْوَدّاً} أي: متغيراً من الغم والحزن والغيظ والكراهية التي حصلت له عند هذه البشارة. وسواد الوجه وبياضه يعبر عن المساءة والمسرة، كناية أو مجازاً {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي: مشتد الغيظ على امرأته؛ لأنه بزعمه، حصل له منها ما يوجب أشد الحياء، حتى أنه: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} أي: يستخفي منهم: {مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} أي: من أجله وخوف التعيير به. ثم يفكر فيما يصنع به، وهو قوله تعالى: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} أي: محدثاً نفسه متفكراً في أن يتركه على هوانٍ وذلٍّ، لا يورِّثه ولا يعتني به، ويفضل ذكور ولده عليه: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أي: يخفيه ويدفنه فيه حياً: {أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي: حيث يجعلون الولد الذي هذا شأنه من الحقارة والهون عندهم، لله تعالى وتقدس، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (60):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [60].
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي: مثل من ذكرت مساوئهم: {مَثَلُ السَّوْءِ} أي: صفات الذل من الحاجة إلى الأولاد وكراهية الإناث ووَأدهن، خشية الإملاق، المنادى كل ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ. ووضع الموصول موضع الضمير؛ للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} أي: الوصف العالي الشأن، وهو الغني عن العالمين، والكمال المطلق والتقدس عن سمات المخلوقين: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
ثم أخبر تعالى عن حلمه بخلقه، مع ظلمهم، بقوله:

.تفسير الآيات (61- 62):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} [61- 62].
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم} أي: بكفرهم ومعاصيهم التي منها ما عدد من المساوئ المتقدمة: {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} أي: على الأرض المدلول عليها بالناس، وبقوله تعالى: {مِن دَآبَّةٍ} أي: لأهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين: {وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: وقت معين تقتضيه الحكمة. يستغفر منهم من يستغفر فيغفر له، ويصر من يصر فيزداد عذاباً: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} أي: المسمى: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}
{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ} أي: ينسون إليه: {مَا يَكْرَهُونَ} أي: من البنات ومن الشركاء. وهم يأنفون من الأولى كما يكرهون مشاركة أحد لهم في مالهم. وهو تكرير لما سبق، تثنيةً للتقريع وتوطئةً لقوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} أي: يجعلون لله ذلك، مع دعواهم أن لهم العاقبة الحسنى عند الله، إن كان ثم معاد، كما قصه تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: من الآية 50]، يعني جَمَعَ هؤلاء بين عمل السوء وتمنِّي المحال، بأن يجازوا على ذلك حسناً.
وقد روي أنه وجد في أحد أحجار الكعبة لما جدِّدت مكتوباً تعملون السيئات وتَجْزَوْنَ الحسنات. أجل. كما يجتبى من الشوك العنب.
و{أَنَّ لَهُمُ} إلخ بدل من {الكذب} أو بتقدير بأن لهم.
قال الشهاب: قوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} من بليغ الكلام وبديعه كقولهم: عينها تصف السحر. أي: ساحرة. وقدها يصف الهيف، أي: هيفاء.
قال أبو العلاء المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن ** فبات برامة يصف الكلالا

ثم رد كلامهم وأثبت ضده بقوله سبحانه: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} أي: معجَّلون إليها ومُقدَّمونَ. من الفرط وهو السابق إلى الورد. يقال: أفرطته في طلب الماء إذا قدمته. أو متروكون منسيِّون في النار. من أفرطته بمعنى تركته ونسيته، على ما حكاه الفراء، كقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51] وقرأ نافع {مُفْرِطُونَ} بكسر الراء. اسم فاعل من أفرط إذا تجاوز، أي: متجاوزو الحد في معاصي الله. وقرأ أبو جعفر بكسر الراء المشددة من فرَّط في كذا إذا قصر. ويقرب من الآية ما قص عنهم في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت: 50]. وقال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً} [الكهف: 35- 36].
ثم ذكر تعالى نعمته في إرسال الرسل وتكذيب أممهم؛ ليتأسى صلوات الله عليه بهم بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (63- 64):

القول في تأويل قوله تعالى: {تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [63- 64].
{تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي: من الكفر والتكذيب والعناد: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أي: قرينهم، يُغويهم. أو المراد باليوم: يوم القيامة. والولي بمعنى الناصر. وجعله ناصراً فيه، مع أنهم لا ينصرون، مبالغة في نفيه وتهكم، على حدِّ عتابه السيف. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ} أي: فالقرآن هو الفرقان الفاصل بين الحق والباطل، وكل ما يتنازع فيه: {وَهُدًى} أي: للقلوب: {وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ثم أشار إلى عظيم قدرته في آياته الكونية الدالة على وحدانيته، إثر قدرته في إحياء القلوب الميتة بالكفر، بما أنزله من وحيه وهداه ورحمته، بقوله:

.تفسير الآيات (65- 66):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائغاً لِلشَّارِبِينَ} [65- 66].
{وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاءِ} أي: المزن: {مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: بالنبات والزرع، بعد جدبها ويبسها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: هذا التذكير، ويعقلون وجه دلالته.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ} وهو ما في الكرش من الثفل: {وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائغاً لِلشَّارِبِينَ} أي: سهل المرور في حلقهم.
بيَّن تعالى آيته في الأنعام بما ذكر؛ ليستدل به على وحدانيته وانفراده بالألوهية، وليستدل به أيضاً على الحشر. فإن العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والتراب. فقلبُ الطين نباتاً وعشباً، ثم تبديله دماً في جوف الحيوان، ثم تحويله إلى لبن، أعظم عبرة على قدرته تعالى على قلب هذه الأجسام الميتة من صفة إلى صفة. وإنما ذكر الضمير في بطونه هنا، وأنثه في سورة المؤمنين؛ لكون الأنعام اسم جمع، فيذكر ويفرد ضميره، باعتبار لفظه. ويؤنث ويجمع باعتبار معناه.
وقوله:

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [67].
{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بيان لآيته تعالى في الثمرات المذكورة، ومنته في المشروب منها والمطعوم. والسَّكَرُ: مصدر سمي به الخمر. فهو بمعنى السُّكْر كالرُّشَد والرُّشْد.
قال الفراء: السَّكَر: الخمر نفسها. والرزق الحسن: الزبيب والتمر وما أشبههما، ولا يقال: الخمر محرمة، فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام؟ لأن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة. وكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة. وأجاب الرازي بجواب ثان.
وهو: أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع، وخاطب المشركين بها، والخمر من أشربتهم، فهي منفعة في حقهم.
قال: ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضاً على تحريمها. وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن لا يكون السَّكَر رزقاَ حسناً. ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة فوجب أن يقال: الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشريعة. وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة. انتهى.
تنبيه:
قال ابن كثير: دلت الآية على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب كما هو مذهب الجمهور.
وفي فتح البيان قد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يشتد إلى حد السكر. كما في الكشاف.
قالوا: إنما يمتن الله على عباده بما أحله لا بما حرمه عليهم. وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر. انتهى.
وليس هذا موضع بسط ذلك. قال ابن كثير: وقد ناسب ذكر العقل ها هنا في قوله تعالى: {لِقَومٍ يَعقِلُونَ} فإنه أشرف ما في الإنسان. ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة، صيانة لعقولها. انتهى.
ولما بيَّن تعالى أن إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، دلائل قاهرة وبينات باهرة، على أن لهذا العالم إلهاً واحداً قادراً مختاراً حكماً، أرشد إلى آيته الساطعة في النحل أيضاً بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (68- 69):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [68- 69].
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} المراد من الوحي: الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات. وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتاً تأوي إليها في ثلاثة أمكنة: الجبال. والشجر. وبيوت الناس، حيث يعرشون، أي: يبنون العروش، جمع عرش وهو البيت الذي يستظل به كالعريش. وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة: الجبال والشجر وبيوت الناس. وأكثر بيوتها ما كان في الجبال، وهو المتقدم في الآية، ثم في الشجر دون ذلك، ثم في الثالث أقل.
فالنحل إذاً نوعان: جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس. وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا. ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أولاً. فإذا استقر لها بيت خرجت منه، فرعت، وأكلت من الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها. وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي: من كل ثمرة تشتهيها، حلوها ومرها. فالعموم عرفي، أو لفظ {كُل} للتكثير، أو هو عام مخصوص بالعادة. ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز؛ لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها؛ لأن الأمر للتخلية والإباحة.
لطيفة:
إنما أوثر {من} في قوله تعالى: {مِنَ الجِبَالِ} الخ، على في دلالة على معنى التبعيض. وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش، ولا في كل مكان منها. نبه عليه الزمخشري.
قال الناصر: ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض {من} المتعلقة باتخاذ البيوت، بإطلاق الأكل. كأنه تعالى وكلَ الأكل إلى شهوتها واختيارها، فلم يحجر عليها فيه، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض؛ لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه. وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع. ولهذا المعنى دخلت {ثم} لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت، والإطلاق لها في تناول الثمرات. كما تقول: راع الحلال فيما تأكله، ثم كل أي: شيء شئت. فتوسط {ثم} لتفاوت الحجر والإطلاق. فسبحان اللطيف الخبير.
وقوله تعالى: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} أي: الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها، أو على حقيقتها. أي: إذا أكلت الثمار في المواضع النائية، فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك، لا تتوعَّر عليك ولا تضلين فيها. و{ذللاً} جمع ذلول، حال من السبل أي: مذللة ذللها الله لك وسهلها. فهي تسلك من هذا الجو العظيم، والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة. ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة. وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ} استئناف، عدل به عن خطاب النحل؛ لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى، تعديداً للنعم، وتنبيهاً على العبر، وإرشاداً إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف. وسمي العسل شراباً؛ لأنه يشرب مع الماء وغيره: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أي فمنه أبيض وأصفر وأحمر؛ لاختلاف ما يؤكل من النَّور أو مزاجها: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض. وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين، وقلَّ معجون من المعاجين، لم يذكر الأطباء فيه العسل. وقد قام الآن مقامه السكر، لكثرته بالنسبة إليه. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال: «اسقه عسلاً» فذهب فسقاه عسلاً، فقال: يا رسول الله! سقيته عسلاً ما زاده إلا استطلاقاً. قال: «اذهب فاسقه عسلاً» فذهب فسقاه عسلاً ثم جاء فقال: يا رسول الله! ما زاده إلا استطلاقاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً. فذهب فسقاه عسلاً فبرأ».
قال ابن كثير: قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات. فلما سقاه عسلاً وسكر حارّ تحللت فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالاً، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره، وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن، استمسك بطنه، وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي العناية للشهاب هنا، قصة عن طبقات الأطباء فيها تأييد لقصة الأعرابي فانظرها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه، وانفراده بألوهيته. وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء، من وراء البيداء، فتقع على كل حرارة عبقة، وزهرة أنقة، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضاباً، وتلفظه شراباً.
قال الحجة الغزالي في الإحياء: انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتاً. وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل. وجعل أحدهما ضياءً والآخر شفاءً. ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها من النجاسات والأقدار، وطاعتها لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصاً وهو أميرها، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة؛ لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيراً في نفسك، وفارغاً من هم بطنك وفرجك، وشهوات نفسك في معاداة أقرانك، وموالاة إخوانك. ثم دع عنك جميع ذلك، وانظر إلى بنيانها بيتاً من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس، فلا تبني بيتها مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً، بل مسدساً لخاصية في الشكل المسدس، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك. وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه. فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة. وشكل النحل مستدير مستطيل. فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة. ثم لو بناها مستديرة لبقي خارج البيوت فرج ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير. ثم تتراص الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس. وهذه خاصية هذا الشكل. فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل، على صغر جرمه، ذلك؛ لطفاً به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه؛ ليهنأ عيشه. فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه. وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضاً في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية. وربما هلك الملسوع. وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارج. وفي طبعه أيضاً النظافة. فلذلك يخرج رجيعه من الخلية؛ لأنه منتن الريح. وهو يعلم زماني الربيع والخريف. والذي يعمله في الربيع أجود. والصغير أعمل من الكبير، وهو يشرب من الماء ما كان صافياً عذباً، يطلبه حيث كان. ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة. وإذا قلَّ العسل في الخلية، قذفه بالماء ليكثر، خوفاً على نفسه من نفاذه؛ لأنه إذا نفد أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور. وربما قتلت ما كان منها هناك.
قال حكيم من اليونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا. قالوا: وكيف النحل في الخلايا؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالاً إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية، لأنه يضيق المكان، ويفني العسل، ويعلم النشيط الكسل.
والنحل يسلخ جلده كالحيات. وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة، ويضره السوس. ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح. وأن يفتح في كل شهر مرة، ويدخن بأخثاء البقر. وفي طبعه أنه متى طار من الخلية، يرعى ثم يعود، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه. كذا في حياة الحيوان.
وذكر الإمام الغزالي أيضاً في كتاب الحكمة في خلق المخلوقات: أن الله تعالى جعل للنحل رئيساً تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها. فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه، قتل أحدهما الآخر، وذلك لمصلحة ظاهرة، وهو خوف الافتراق؛ لأنهما إذا كانا أميرين، وسلك كل واحد منهما فجَّاً، افترق النحل خلفهما. ثم إنها أُلهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار. فيستحيل في أجوافها عسلاً. فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد، من شراب فيه شفاء للناس، كما أخبر سبحانه وتعالى. وفيه غذاء وملاذ للعباد. وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم. فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها. وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس. ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها، لتوعي فيه العسل وتحفظه. فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح. فانظر في هذه الذبابة، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها! ثم انظر لخروجها نهاراً لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل، ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعداً عن مواضع العسل. وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه.
قال أبو السعود: ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل، أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك. وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع: الأولى: سن النشوء والنماء. والثانية: سن الوقوف وهي سن الشباب. والثالثة: سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة. والرابعة: سن الانحطاط الكبير وهي سن الشيخوخة، فقال سبحانه: